فصل: تفسير الآية رقم (102):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (102):

{وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)}
فيه احدى عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} روى الدارقطني عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعسفان، فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، قال: ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال: فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر {وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ}. وذكر الحديث. وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى. وهذا كان سبب إسلام خالد رضي الله عنه. وقد اتصلت هذه الآية بما سبق من ذكر الجهاد. وبين الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر ولا بعذر الجهاد وقتال العدو، ولكن فيها رخص على ما تقدم في البقرة وهذه السورة، بيانه من اختلاف العلماء. وهذه الآية خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة، ومثله قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً} هذا قول كافة العلماء. وشذ أبو يوسف وإسماعيل بن علية فقالا: لا نصلي صلاة الخوف بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الخطاب كان خاصا له بقوله تعالى: {وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ} وإذا لم يكن فيهم لم يكن ذلك لهم، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس كغيره في ذلك، وكلهم كان يحب أن يأتم به ويصلي خلفه، وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه، والناس بعده تستوي أحوالهم وتتقارب، فلذلك يصلي الامام بفريق ويأمر من يصلي بالفريق الآخر، وأما أن يصلوا بإمام واحد فلا.
وقال الجمهور: إنا قد أمرنا باتباعه والتأسي به في غير ما آية وغير حديث، فقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صلوا كما رأيتموني أصلي». فلزم اتباعه مطلقا حتى يدل دليل واضح على الخصوص، ولو كان ما ذكروه دليلا على الخصوص للزم قصر الخطابات على من توجهت له، وحينئذ كان يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها، ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اطرحوا توهم الخصوص في هذه الصلاة وعدوه إلى غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وقد قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} وهذا خطاب له، وأمته داخلة فيه، ومثله كثير.
وقال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} وذلك لا يوجب الاقتصار عليه وحده، وأن من بعده يقوم في ذلك مقامه، فكذلك في قوله: {وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ}. ألا ترى أن أبا بكر الصديق في جماعة الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا من تأول في الزكاة مثل ما تأولتموه في صلاة الخوف. قال أبو عمر: ليس في أخذ الزكاة التي قد استوى فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن بعده من الخلفاء ما يشبه صلاة من صلى خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلى خلف غيره، لأن أخذ الزكاة فائدتها توصيلها للمساكين، وليس فيها فضل للمعطى كما في الصلاة فضل للمصلي خلفه.
الثانية: قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} يعني جماعة منهم تقف معك في الصلاة. {لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} يعني الذين يصلون معك. ويقال: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} الذين هم بإزاء العدو، على ما يأتي بيانه. ولم يذكر الله تعالى في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة، ولكن روى في الأحاديث أنهم أضافوا إليها أخرى، على ما يأتي. وحذفت الكسرة من قوله: {فَلْتَقُمْ} و{فَلْيَكُونُوا} لثقلها.
وحكى الأخفش والقراء والكسائي أن لام الامر ولام كي ولام الجحود يفتحن. وسيبويه يمنع من ذلك لعلة موجبة، وهى الفرق بين لام الجر ولام التأكيد. والمراد من هذا الامر الانقسام، أي وسائرهم وجاه العدو حذرا من توقع حملته. وقد اختلفت الروايات في هيئة صلاة الخوف، واختلف العلماء لاختلافها، فذكر ابن القصار أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاها في عشرة مواضع. قال ابن العربي: روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة.
وقال الامام أحمد بن حنبل، وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه: لا أعلم أنه روى في صلاة الخوف إلا حديث ثابت. وهي كلها صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة الحوف أجزأه إن شاء الله. وكذلك قال أبو جعفر الطبري. وأما مالك وسائر أصحابه الا أشهب فذهبوا في صلاة الخوف إلى حديث سهل بن أبي حثمة، وهو ما رواه في موطئة عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات الأنصاري أن سهل بن أبي حثمة حدثه أن صلاة الخوف أن يقوم الامام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة العدو، فيركع الامام ركعة ويسجد بالذين معه ثم يقوم، فإذا استوى قائما ثبت، وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون وينصرفون والامام قائم، فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الامام فيركع بهم الركعة ويسجد ثم يسلم، فيقومون ويركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون. قال ابن القاسم صاحب مالك: والعمل عند مالك على حديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات. قال ابن القاسم: وقد كان يأخذ بحديث يزيد بن رومان ثم رجع إلى هذا. قال أبو عمر: حديث القاسم وحديث يزيد بن رومان كلاهما عن صالح ابن خوات: إلا أن بينهما فصلا في السلام، ففي حديث القاسم أن الامام يسلم بالطائفة الثانية ثم يقومون فيقضون لأنفسهم الركعة، وفي حديث يزيد بن رومان أنه ينتظرهم ويسلم بهم وبه قال الشافعي وإليه ذهب، قال الشافعي: حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات هذا أشبه الأحاديث في صلاة الخوف بظاهر كتاب الله، وبه أقول. ومن حجة مالك في اختياره حديث القاسم القياس على سائر الصلوات، في أن الامام ليس له أن ينتظر أحدا سبقه بشيء منها، وأن السنة المجتمع عليها أن يقضي المأمومون ما سبقوا به بعد سلام الامام. وقول أبي ثور في هذا الباب كقول مالك، وقال أحمد كقول الشافعي في المختار عنده، وكان لا يعيب من فعل شيئا من الأوجه المروية في صلاة الخوف. وذهب أشهب من أصحاب مالك إلى حديث ابن عمر قال: صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعة ثم سلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة.
وقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك صلى راكبا أو قائما يومئ إيماء، أخرجه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم. وإلى هذه الصفة ذهب الأوزاعي، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر، قال: لأنه أصحها إسنادا، وقد ورد بنقل أهل المدينة وبهم الحجة على من خالفهم، ولأنه أشبه بالأصول، لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصلاة، وهو المعروف من سنته المجتمع عليها في سائر الصلوات. وأما الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف القاضي يعقوب فذهبوا إلى حديث عبد الله بن مسعود، أخرجه أبو داود والدارقطني قال: صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الخوف فقاموا صفين، صفا خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفا مستقبل العدو، فصلى بهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعة، وجاء الآخرون فقاموا مقامهم، واستقبل هؤلاء العدو فصلى بهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم سلم، فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلين العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا. وهذه الصفة والهيئة هي الهيئة المذكورة في حديث ابن عمر إلا أن بينهما فرقا، وهو أن قضاء أولئك في حديث ابن عمر يظهر أنه في حالة واحدة ويبقى الامام كالحارس وحده، وها هنا قضاؤهم متفرق على صفة صلاتهم. وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على ما جاء في حديث ابن مسعود. وقد ذهب إلى حديث ابن مسعود الثوري- في إحدى الروايات الثلاث عنه- وأشهب بن عبد العزيز فيما ذكر أبو الحسن اللخمي عنه، والأول ذكره أبو عمر وابن يونس وابن حبيب عنه.
وروى أبو داود من حديث حذيفة وأبي هريرة وابن عمر أنه عليه السلام صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا، وهو مقتضى حديث ابن عباس: «وفي الخوف ركعة». وهذا قول إسحاق. وقد تقدم في البقرة الإشارة إلى هذا، وأن الصلاة أولى بما احتيط لها، وأن حديث ابن عباس لا تقوم به حجة، وقوله في حديث حذيفة وغيره: «ولم يقضوا» أي في علم من روى ذلك، لأنه قد روي أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها، وشهادة من زاد أولى. ويحتمل أن يكون المراد لم يقضوا، أي لم يقضوا إذا أمنوا، وتكون فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضي ما صلى على تلك الهيئة من الصلوات في الخوف، قال جميعه أبو عمر.
وفي صحيح مسلم عن جابر أنه عليه والسلام صلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلي بالطائفة الأخرى ركعتين. قال: فكان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع ركعات وللقوم ركعتان. وأخرجه أبو داود والدارقطني من حديث الحسن عن أبي بكرة وذكرا فيه أنه سلم من كل ركعتين. وأخرجه الدارقطني أيضا عن الحسن عن جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بهم ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالآخرين ركعتين ثم سلم. قال أبو داود: وبذلك كان الحسن يفتي، وروي عن الشافعي. وبه يحتج كل من أجاز اختلاف نية الامام والمأموم في الصلاة، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن علية وأحمد بن حنبل وداود. وعضدوا هذا بحديث جابر: أن معاذا كان يصلي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء ثم يأتي فيؤم قومه، الحديث.
وقال الطحاوي: إنما كان هذا في أول الإسلام إذ كان يجوز أن تصلي الفريضة مرتين ثم نسخ ذلك، والله أعلم. فهذه أقاويل العلماء في صلاة الخوف.
الثالثة: وهذه الصلاة المذكورة في القرآن إنما يحتاج إليها والمسلمون مستدبرون القبلة ووجه العدو القبلة، وإنما اتفق هذا بذات الرقاع، فأما بعسفان والموضع الآخر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة. وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين، فإن في الحديث بعد قوله: {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} قال: فحضرت الصلاة فأمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأخذوا السلاح وصفنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعا، قال: ثم رفع فرفعنا جميعا، قال: ثم سجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصف الذي يليه قال: والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، قال: ثم تقدم هؤلاء في مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، قال: ثم ركع فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصف الذي يليه، والآخرون قيام، يحرسونهم فلما جلس الآخرون سجدوا ثم سلم عليهم. قال: فصلاها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين: مرة بعسفان ومرة في أرض بني سليم. وأخرجه أبو داود من حديث أبي عياش الزرقي وقال: وهو قول الثوري وهو أحوطها. وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل بين ضجنان وعسفان، الحديث. وفيه أنه عليه السلام صدعهم صدعين وصلي بكل طائفة ركعة، فكانت للقوم ركعة ركعة، وللنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتان، قال: حديث حسن صحيح غريب.
وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وجابر وأبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت، وابن عمر وحذيفة وأبي بكر وسهل بن أبي حثمة.
قلت: ولا تعارض بين هذه الروايات، فلعله صلى بهم صلاة كما جاء في حديث أبي عياش مجتمعين، وصلي بهم صلاة أخرى متفرقين كما جاء في حديث أبي هريرة، ويكون فيه حجة لمن يقول صلاة الخوف ركعة. قال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة.
الرابعة: واختلفوا في كيفية صلاة المغرب، فروى الدارقطني عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرفوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، فكانت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستا وللقوم ثلاثا ثلاثا، وبه قال الحسن. والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا، وهو أنه يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة، وتقضي على اختلاف أصولهم فيه متى يكون؟ هل قبل سلام الامام أو بعده. هذا قول مالك وأبي حنيفة، لأنه أحفظ لهيئة الصلاة.
وقال الشافعي: يصلي بالأولى ركعة، لأن عليا رضي الله عنه فعلها ليلة الهرير، والله تعالى أعلم.
الخامسة: واختلفوا في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدة القتال وخيف خروج الوقت، فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء: يصلي كيفما أمكن، لقول ابن عمر: فإن كان خوف أكثر من ذلك فيصلي راكبا أو قائما يومئ إيماء. قال في الموطأ: مستقبل القبلة وغير مستقبلها، وقد تقدم في البقرة قول الضحاك وإسحاق. وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا يجزئهم التكبير ويؤخروها حتى يأمنوا، وبه قال مكحول.
قلت: وحكاه إلكيا الطبري في أحكام القرآن له عن أبي حنيفة وأصحابه، قال إلكيا: وإذا كان الخوف أشد من ذلك وكان التحام القتال فإن المسلمين يصلون على ما أمكنهم مستقبلي القبلة ومستدبريها، وأبو حنيفه وأصحابه الثلاثة متفقون على أنهم لا يصلون والحالة هذه بل يؤخرون الصلاة. وإن قاتلوا في الصلاة قالوا: فسدت الصلاة وحكي عن الشافعي أنه إن تابع الطعن والضرب فسدت صلاته.
قلت: وهذا القول يدل على صحة قول أنس: حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم نقدر على الصلاة إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا. قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها، ذكره البخاري وإليه كان يذهب شيخنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بأبي حجة، وهو اختيار البخاري فيما يظهر، لأنه أردفه بحديث جابر، قال: جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول: يا رسول الله، ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأنا والله ما صليتها» قال: فنزل إلى بطحان فتوضأ وصلي العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى المغرب بعدها.
السادسة: واختلفوا في صلاة الطالب والمطلوب، فقال مالك وجماعة من أصحابه هما سواء، كل واحد منهما يصلي على دابته.
وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبد الحكم: لا يصلي الطالب إلا بالأرض وهو الصحيح، لأن الطلب تطوع، والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلي بالأرض حيثما أمكن ذلك، ولا يصليها راكب إلا خائف شديد خوفه وليس كذلك الطالب. والله أعلم.
السابعة واختلفوا أيضا في العسكر إذا رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة الخوف ثم بان لهم أنه غير شي، فلعلمائنا فيه روايتان: إحداهما يعيدون، وبه قال أبو حنيفة. والثانية لا إعادة عليهم، وهو أظهر قولي الشافعي. ووجه الأولى أنهم تبين لهم الخطأ فعادوا إلى الصواب كحكم الحاكم. ووجه الثانية أنهم عملوا على اجتهادهم فجاز لهم كما لو أخطئوا القبلة، وهذا أولى لأنهم فعلوا ما أمروا به. وقد يقال: يعيدون في الوقت، فأما بعد خروجه فلا. والله أعلم.
الثامنة: قوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} وقال: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} هذا وصاة بالحذر واخذ السلاح لئلا ينال العدو أمله ويدرك فرصته. والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب، قال عنترة:
كسوت الجعد جعد بني أبان ** سلاحي بعد عري وافتضاح

يقول: أعرته سلاحي ليمتنع بها بعد عريه من السلاح. قال ابن عباس: {وليأخذوا أسلحتهم} يعني الطائفة التي وجاه العدو، لأن المصلية لا تحارب.
وقال غيره: هي المصلية، أي وليأخذ الذين صلوا أولا أسلحتهم، ذكره الزجاج. قال: ويحتمل أن تكون الطائفة الذين هم في الصلاة أمروا بحمل السلاح، أي فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإنه أرهب للعدو. النحاس: يجوز أن يكون للجميع، لأنه أهيب للعدو. ويحتمل أن يكون للتي وجاه العدو خاصة. قال أبو عمر: أكثر أهل العلم يستحبون للمصلي أخذ سلاحه إذا صلى في الخوف، ويحملون قوله: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} على الندب، لأنه شيء لولا الخوف لم يجب أخذه، فكان الامر به ندبا.
وقال أهل الظاهر: أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب لأمر الله به، إلا لمن كان به أذى من مطر، فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه. قال ابن العربي إذا صلوا أخذوا سلاحهم عند الخوف، وبه قال الشافعي وهو نص القرآن.
وقال أبو حنيفة: لا يحملونها، لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها. قلنا: لم يجب حملها لأجل الصلاة وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا.
التاسعة: قوله تعالى: {فَإِذا سَجَدُوا} الضمير في: {سَجَدُوا} للطائفة المصلية فلينصرفوا، هذا على بعض الهيئات المروية.
وقيل: المعنى فإذا سجدوا ركعة القضاء، وهذا على هيئة سهل بن أبى حثمة. ودلت هذه الآية على أن السجود قد يعبر به عن جميع الصلاة، وهو كقوله عليه السلام: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين». أي فليل ركعتين وهو في السنة. والضمير في قوله: {فَلْيَكُونُوا} يحتمل أن يكون للذين سجدوا، ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولا بإزاء العدو.
العاشرة: قوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي تمنى وأحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلاح ليصلوا إلى مقصودهم، فبين الله تعالى بهذا وجه الحكمة في الامر بأخذ السلاح، وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى، لأنها أولى بأخذ الحذر، لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة، وأيضا يقول العدو قد أثقلهم السلاح وكلوا.
وفي هذه الآية أدل دليل على تعاطي الأسباب، واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب، ويوصل إلى السلامة، ويبلغ دار الكرامة. ومعنى: {مَيْلَةً واحِدَةً} مبالغه، أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} الآية. للعلماء في وجوب حمل السلاح في الصلاة كلام قد أشرنا إليه، فإن لم يجب فيستحب للاحتياط. ثم رخص في المطر وضعه، لأنه تبتل المبطنات وتثقل ويصدأ الحديد.
وقيل: نزلت في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بطن نخلة لما انهزم المشركون وغنم المسلمون، وذلك أنه كان يوما مطيرا وخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقضاء حاجته واضعا سلاحه، فرآه الكفار منقطعا عن أصحابه فقصده غورث بن الحارث فانحدر عليه من الجبل بسيفه، فقال: من يمنعك مني اليوم؟ فقال: «الله» ثم قال: «اللهم اكفني الغورث بما شئت». فأهوى بالسيف إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليضربه، فانكب لوجهه لزلقة زلقها. وذكر الواقدي أن جبريل عليه السلام دفعه في صدره على ما يأتي في المائدة، وسقط السيف من يده فأخذه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: «من يمنعك مني يا غورث؟» فقال: لا أحد. فقال: «تشهد لي بالحق وأعطيك سيفك؟» قال: لا، ولكن أشهد ألا أقاتلك بعد هذا ولا أعين عليك عدوا، فدفع إليه السيف ونزلت الآية رخصة في وضع السلاح في المطر. ومرض عبد الرحمن بن عوف من جرح كما في صحيح البخاري، فرخص الله سبحانه لهم في ترك السلاح والتأهب للعدو بعذر المطر، ثم أمرهم فقال: «خذوا حذركم» أي كونوا متيقظين، وضعتم السلاح أو لم تضعوه. وهذا يدل على تأكيد التأهب والحذر من العدو في كل الأحوال وترك الاستسلام، فإن الجيش ما جاءه مصاب قط إلا من تفريط في حذر.
وقال الضحاك في قوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} يعني تقلدوا سيوفكم فإن ذلك هيئة الغزاة.